وقفت أم عبّاس قدّام الكاميرا وهي تَعتمرُ خوذة عسكريّة، وقالت بتحدٍّ "من منكم يحمل سلاحاً فليوجه إطلاقاته إلى رأسي.. أنا من صنع هذهِ الخوذة وأُراهن عليها بحياتي"، وتساءلت "لماذا تبقى صناعاتنا مكدَّسة في المخازن فيما الدّولة تستورد مثيلاتها التي لا ترق إلى جودتها بملايين الدولارات؟"
لا تجد السيّدة التي تعمل في مصنعٍ تابعٍ لوزارةِ الصّناعة العراقيّة، والتي لم تتسلّم مرتّبها منذ أكثر من ثلاثة أشهر، إجابة من الحكومة العراقيّة التي أغرقت البلاد بالسلع المستوردة، من دون أي مُراعاة للحفاظ على الصناعات المحليّة وتطويرها. السؤال ذاته يطرحه عمال شركات النسيج الذين يقولون إن الدولة تستورد من الصين وإيران عشرات آلاف "البطانيات" (الأغطية) منخفضة الجودة لتوزيعها على النازحين، في حين أن "مخازن شركاتنا مملؤة بإنتاجنا من البطانيات عالية الجودة"، والأمر ذاته ينسحب على معامل الفوسفات والأدوية والحديد الصُلب.. وغيرها.
لقد أدّى انخفاض أسعار النفط الخام إلى النصف، وارتفاع كُلف الحرب الدائرة بين القوّات الأمنية وتنظيم "داعش"، إلى أن تتخذ حكومة حيدر العبادي خيار التقشّف كأسهل الخيارات للخلاص من الأزمة الماليّة التي تمرّ بها البلاد. وجعل هذا أم عبّاس وزملاءها وزميلاتها أوّل القرابين على مَذبح سوء إدارة الاقتصاد والصناعة العراقيين.
الإجهاز على ما تبقى
بعد إسقاط نظام صدّام حسين في 9 نيسان العام 2003، كان من الصّعب إحصاء حجم الخراب الذي حلَّ بالبنيّة التحتيّة للبلاد. صارت الشركات الصناعية العراقية نهباً للصوص. أُحرِق بعضها، وتم بيع مكائن وأجهزة شركات أخرى لبعض دول الجوار بأثمان بخسة. وبدلاً من أن يُعاد إحياء الصناعة العراقيّة، التي تضررت جراء الحصار الاقتصادي القاسي الذي استمر لأكثر من عقد، والاحتلال الذي أقرّ مشروع إعادة إعمار العراق، راح بول بريمر، "الحاكم المدني للعراق"، يشرِّع قراراً يقضي بفرض ضريبة 5 في المئة على السلع الداخلة إلى العراق، وهي قيمة منخفضة أدّت إلى إغراق الأسواق بالسلع الأجنبيّة ومواد البناء من دول الجوار.
جعل ذلك العاملين في تلك الشركات يعانون البطالة المقنَّعة لسنوات. لكنهم وبخبرتهم المتراكمة، تمكنوا من إعادة تأهيل بعض تلك الشركات التي بدأت بالإنتاج الفعلي. فأجهضت الفوضى والفساد الإداري والمالي آمالهم بتسويق منتجاتهم تمهيداً لتطويرها:
- فالفوضى والفساد الإداريين لم يتمكّنا من إيجاد أسواق لتلك المنتجات داخلياً وخارجياً، خاصة مع وجود سلع أجنبيّة لا يمكن للانتاج المحلي، الذي يعاني الويلات، منافستها.
- وإذا ما كان بريمر وضع الـ5 في المئة من أجل تخفيض الضرائب على الشركات المتعاونة مع الإدارة الأميركية في دعم الحرب على العراق، فإن الأحزاب السياسيّة فرضت نحو 15 في المئة كحصص من كلّ عقد تبرمه مع الشركات التي تأتي بالمنتوجات والسلع لحساب الحكومة، لزيادة الأموال في الحسابات الشخصية لأفرادها. وهكذا تعمَّد فرسان الفساد إبقاء تلك المنتجات في المخازن بهدف الاستمرار في استيراد بضائع مشابهة.
وعلى الرغم من تعطّل 1996 مصنعاً تابعاً لأربع وزارات في العراق عن العمل، بسبب تقادم بعضها، وتخلّف بعضها الآخر عن التكنولوجيا الحديثة، وعلى الرغم من أن الصناعة لا تُشارك في الناتج المحلي إلا بنحو 2.4 في المئة، إلا أن توظيف العمّال في هذه المصانع بقي مستمراً، في صفقة الزبائنية السياسية بين الأحزاب وسكّان المحافظات العراقية التي تعاني فقراً مدقعاً، وهو استمرار لمسلسل البطالة المقنعة و/أو "الفضائيين"، الذي أدّى إلى وصول عدد الموظفين في الحكومة إلى نحو 6 ملايين موظّف، لا يعمل أيّاً منهم سوى 10 دقائق في اليوم الواحد!
تمويل ذاتي
حاولت الحكومات العراقيّة المتعاقبة منذ العام 2003 وحتّى الآن، تحويل شركات القطاع العام إلى التمويل الذاتي، من أجل تخفيف العبء الذي تسبّبه للدولة. إلا أن خطّة التحويل هذه، لم يكن يعقبها أي استراتيجية في تصريف المنتجات، الأمر الذي يجعلها دائماً متخوّفة من أن تكون شركات خاسرة، ويجعل عمّالها لقمة سائغة للجوع، ويجعل مصانعهم أيضاً عرضة لجشع الأحزاب السياسية التي تمتلك شبكة تجّار مستعدين للانقضاض على أي مشروع يدرّ الأرباح، مهما جرَّ خلفه من ويلات على عامّة الشّعب.
كلّف نحو 400 ألف موظّف في الشركات العامّة الدولة نحو 10 مليارات دولار كمرتبّات خلال العقد الذي تلا الاحتلال، واقترضت الأموال من المصارف الخاصّة بفوائد تسدّدها وزارة الماليّة العراقيّة. جرى كل ذلك من دون أن يكون لهؤلاء العمّال والعاملات انتاج فعلي يسدّ ما يُنفَق عليهم، بل إن بعض الشركات أُعلنت كمنشآت خاسرة، وليس لديها القدرة على الإنتاج.
حصل ذلك كلّه أيّام الطفرة المالية جراء ارتفاع أسعار النفط إلى أكثر من 100 دولار للبرميل الواحد، الأمر الذي جعل الجميع مطمئناً: يأخذ العمّال مرتبّاتهم كل شهر، وتكدّس الحكومة منتوجاتهم في المخازن لتأكلها الجرذان وتتلفها الأمطار. لم يتوقّع أحدّاً أن شيئاً جديداً سيحدث، أن النفط لن يظلَّ على حاله، وأن الدولة عليها أن تنوّع مصادرها، وأن تستثمر في مصانعها المعطّلة والمتهالكة.
ما الذي جرى؟
إيغالاً في فشل الإدارة المالية، مع تبخّر الأموال من خزينة الدولة بالتزامن مع انخفاض أسعار النفط واستعار الحرب ضد تنظيم "داعش"، عمدت وزارة المالية إلى قطع مرتبات العمّال لفترات امتدت في بعض الشركات لعشرة أشهر، فيما تتراوح فترات قطع مرتبات منتسبي شركات أخرى بين الستة أشهر والثلاثة أشهر. لم يجد المنتسبون، جرّاء الجوع الذي حلَّ في منازلهم، بدَّاً من الاحتجاج للمطالبة بمرتباتهم، وفي ظل غياب النقابات التي تدافع عن حقوقهم على الرغم من الإرث النقابي الكبير في التاريخ العمالي العراقي.. لم يجد هؤلاء سوى المبادرات الفردية التي سرعان ما تحولت إلى تجمّعات واسعة في معظم المحافظات.
كانت البداية من معامل النسيج، حيث اعتصم مئات العمال منتصف أيلول 2011، للمطالبة بمرتباتهم وحماية المنتج الوطني من منافسة البضائع المستوردة من مناشئ لا ترقى إلى مستوى المنتوج المحلي. وبعد دفع مرتبات المنتسبين آنذاك، عادت قضية الشركات إلى الظل، لتنطلق مجدداً بداية العام الجاري. ومع إهمال المطالب من قبل الحكومة، عمد منتسبو الصناعات النسيجية في بابل إلى اقتحام مجلس المحافظة في التاسع من شباط في حركة تصعيدية وجدت صداها مباشرة في بغداد، حيث قطع المئات من منتسبي شركات البطاريات والصناعات الميكانيكية والصناعات الكهربائية الطريق السريع أمام مبنى وزارة المالية مطالبين بصرف مرتباتهم. وأمام هذا التصعيد، أضطرّت الحكومة للانصياع لمطالب المنتسبين وصرف بعض من مرتباتهم ومستحقاتهم لتحل جزءاً من المشكلة وتجعل الجزء الآخر قيد الانتظار.
والحل؟
ليس لدّى الحكومة إجابات على أسئلة 600 ألف موظف موزعين على 79 شركة عن مستقبلهم، لكن ثمّة مشاريع قوانين عدّة تخفف من أعباء الانفاق، وليس من بينها إعادة تشغيل المصانع والاستفادة من منتوجاتها، ومنها خفض سنّ التقاعد ليضاف هؤلاء إلى نحو مليون متقاعد مسجلين في سجّل الحكومة العراقيّة، أو عرض هذه المصانع للبيع أو للاستثمار، تاركين مصائر العمّال للمستثمرين الجدد الذين لن يضبطهم قانون يمنع صرفهم من المصانع.
تظلَّ اللجنة المالية في البرلمان تكرر المقترحات، إلا أن رفع الحيف عن المصانع، وتدوير عجلتها، وبيع منتجاتها إلى المؤسسات التي تحتاجها تظلّ خارج المقترحات. هذا القصور من قبل رجال الدولة يرتبط بالتأكيد بنقص خبرتهم في إدارة الملفات المهمة ومنها الملف الصناعي، لكن يضاف الى ذلك شبهات فساد تقف خلف إفشال الصناعات العراقية بسبب الرِشا التي يتسلمها المسؤولون من صفقات استيراد المنتجات من الخارج، حيث أن البضائع والصناعات العراقية محددة الأسعار ويتم تسديد أقيامها عبر الحسابات المصرفية من الجهة الشارية الى الجهة البائعة، مما يحرم الفاسدين من حصصهم الكبيرة في صفقات التجهيز.
قد يكون حراك العاملين في شركات وزارة الصناعة ذات التمويل الذاتي المتزامن مع الأزمة التي تعصف بالاقتصاد العراقي، مدخلاً للاهتمام بالصناعات العراقية ما يشكل إضافة نوعية في ملف محاربة الفساد ومورداً مهمّاً للدخل الوطني. والى أن تتحقق هذه "القد"، تبقى الصناعات العراقية من دون عزاء من الدولة والقائمين عليها.
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"السفير العربي"]